الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القاسمي: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ {سأل سائِلٌ بِعذابٍ واقِعٍ* لِّلْكافِرين} قال مجاهد: أي: دعا داع بعذاب يقع في الآخرة، وهو قولهم: {اللّهُمّ إِن كان هذا هُو الْحقّ مِنْ عِندِك فأمْطِرْ عليْنا حِجارة مِّن السّماء أوِ ائْتِنا بِعذابٍ ألِيمٍ} [الأنفال: 32]. والسائل هو النضر بن الحارث بن كلدة- فيما رواه النسائي عن ابن عباس- وقد قيل: إن الموعود بوقوعه عذاب الدنيا. وقد قتل النضر ببدر، ففي الآية إخبار عن مغيب وقع مصداقه. و{لِلْكافِرِين} صفة ثانية لـ عذاب، أو صلة لـ {واقِعٍ} واللام للتعليل، أو بمعنى على. {ليْس لهُ دافِعٌ} أي: رادّ يرده من جهته، لتعلق إرادته به. وهذا كقوله تعالى: {ويسْتعْجِلُونك بِالْعذابِ ولن يُخْلِف اللّهُ وعْدهُ} [الحج: 47]. وقوله تعالى: {ذِي الْمعارِجِ} قال الرازيّ: المعارج جمع معرج، وهو المصعد، ومنه قوله تعالى: {ومعارِج عليْها يظْهرُون} [الزخرف: 33]. والمفسرون ذكروا فيه وجوها: أحدها: قال ابن عباس في رواية: أي: هي السماوات؛ وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها. وثانيها: قال قتادة: ذي الفواضل والنعم؛ وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة. وثالثها: أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة. وقوله تعالى: {تعْرُجُ الْملائِكةُ والرُّوحُ إِليْهِ فِي يوْمٍ كان مِقْدارُهُ خمْسِين ألْف سنةٍ} قال ابن جرير: أي: تصعد الملائكة والروح، وهو جبريل، إليه عز وجل، في يوم كان مقدار صعودهم ذلك، في يوم لغيرهم من الخلق: خمسين ألف سنة؛ وذلك أنها تصعد من منتهى أسفل الأرض، إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع. وقيل: بل معناه تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة. وقد قيل: إن {فِي يوْمٍ} متعلق بـ {واقِعٍ} والمراد به يوم القيامة. فعن ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. والمقدار المذكور إما حقيقي، أو مجاز عن الاستطالة. قال الشهاب: وهكذا زمان كل شدة، كما قيل: ونقل الرازي عن أبي مسلم أن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها، من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء، فبين تعالى أنه لابد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم، وهذا اليوم مقدّر بخمسين ألف سنة. ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوما، لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي. انتهى. وهو بعيد، وهذه الآية كآية: {يُدبِّرُ الْأمْر مِن السّماء إِلى الْأرْضِ ثُمّ يعْرُجُ إِليْهِ فِي يوْمٍ كان مِقْدارُهُ ألْف سنةٍ مِّمّا تعُدُّون} [السجدة: 5]، ولا منافاة في التقدير؛ لأن المعنيّ به الاستطالة، لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات. والقرآن يفسر بعضه بعضا، والله أعلم. {فاصْبِرْ صبْرا جمِيلا} أي: على ما يقولون، ولا يضيق صدرك، فقد قرب الانتقام منهم. {إِنّهُمْ يروْنهُ} أي: العذاب الدنيوي أو الأخروي {بعِيدا} أي: وقوعه، لعدم إيمانهم بوعيده تعالى. {ونراهُ قرِيبا} أي: قريب الحضور. {يوْم تكُونُ السّماء كالْمُهْلِ} أي: كالشيء المذاب، أو درديّ الزيت. و{يوْم} إما ظرف لـ {قرِيبا}، أو لمحذوف. {وتكُونُ الْجِبالُ كالْعِهْنِ} أي: كالصوف. {ولا يسْألُ حمِيمٌ حمِيما} أي: قريب قريبا عن شأنه، لشغله بشأن نفسه. {يُبصّرُونهُمْ} أي: يعرّفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض. وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل، لا احتجاب بعضهم من بعض. {يودُّ الْمُجْرِمُ} أي: يتمنى الكافر {لوْ يفْتدِي مِنْ عذابِ يوْمِئِذٍ بِبنِيهِ} أي: الذين هم محل شفقته. {وصاحِبتِهِ} أي: التي هي أحب إليه {وأخِيهِ} أي: الذي يستعين به في النوائب. {وفصِيلتِهِ} أي: عشيرته {الّتِي تُؤْويهِ} أي: تضمه إليها عند الشدائد. {ومن فِي الْأرْضِ جمِيعا ثُمّ يُنجِيهِ} أي: الافتداء، أو المذكور، أو من في الأرض. عطف على {يفْتدِي} و{ثُمّ} للاستبعاد. {كلّا إِنّها لظى نزّاعة لِّلشّوى تدْعُو منْ أدْبر وتولّى وجمع فأوْعى} [15- 18] {كلّا} أي: لا يكون ذلك {أنْها} أي: النار الموعود بها المجرم {لظى} أي: لهب خالص. {نزّاعة لِّلشّوى} أي: الأطراف، كاليد والرجل. أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس. {تدْعُواْ} أي: على صليّها {منْ أدْبر} أي: عن الحق {وتولّى} أي: عن الطاعة. {وجمع} أي: المال {فأوْعى} أي: جعله في وعاء وكنزه، ومنع حق الله منه، فلم يزكّ، ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه. {إِنّ الْإِنسان خُلِق هلُوعا} أي: قليل الصبر، شديد الحرص، كما بينه بقوله: {إِذا مسّهُ الشّرُّ} أي: الضرّ والبلاء {جزُوعا} أي: كثير الجزع من قلة صبره. {وإِذا مسّهُ الْخيْرُ} أي: كثر ماله وناله الغنى {منُوعا} أي: لِما في يده، بخيل به، لشدة حرصه. {إِلّا الْمُصلِّين الّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ دائِمُون} أي: مقيمون، لا يضيّعون منها شيئا. {والّذِين فِي أمْوالِهِمْ حقٌّ مّعْلُومٌ* لِّلسّائِلِ والْمحْرُومِ} أي: المتعفّف الذي أدبرت عنه الدنيا، فلا يسأل الناس. وقيل: الذي لا ينمي له مال. وقيل: المصاب ثمره، أخذا من قوله أصحاب الجنة في السورة قبلُ: {بلْ نحْنُ محْرُومُون} [القلم: 27]. واللفظ أعمّ من ذلك كله. وقد روى ابن جرير عن ابن عمر أنه سئل عن الحق المعلوم أهو الزكاة؟ فقال: إن عليك حقوقا سوى ذلك. ومثله عن ابن عباس قال: هو سوى الصدقة، يصل بها رحِما، أو يُقري بها ضيفا، أو يحمل بها كلاّ، أو يعين بها محروما. وعن الشعبيّ: أن في المال حقا سوى الزكاة. {والّذِين يُصدِّقُون بِيوْمِ الدِّينِ} أي: الجزاء. {والّذِين هُم مِّنْ عذابِ ربِّهِم مُّشْفِقُون} قال ابن جرير: أي: وجِلون أن يعذبهم في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيّعون له فرضا، ولا يتعدون له حدا. {إِنّ عذاب ربِّهِمْ غيْرُ مأْمُونٍ} أي: أن ينال من عصاه، وخالف أمره. {والّذِين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون} أي: لغلبة ملكة الصبر، وامتلاك ناصيته. {إِلّا على أزْواجِهِمْ أوْ ما ملكتْ أيْمانُهُمْ فإِنّهُمْ غيْرُ ملُومِين فمنِ ابْتغى وراء ذلِك فأُوْلئِك هُمُ الْعادُون} قال ابن جرير: أي: التمس لفرجه منكحا سوى زوجته، أو ملك يمينه.. {فأُوْلئِك هُمُ الْعادُون} أي: الذين عدوا ما أحل الله لهم، إلى ما حرّمه عليهم. {والّذِين هُمْ لِأماناتِهِمْ وعهْدِهِمْ راعُون} قال ابن جرير: أي: لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه، وأمانات عباده التي ائتمنوا عليها، وعهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم، على ما عقده لهم على نفسه راعون، يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيّعونه. {والّذِين هُم بِشهاداتِهِمْ قائِمُون} أي: لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمهم أداؤها، غير مغيّرة ولا مبدّلة. {والّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ يُحافِظُون} أ: ي لا يضيّعون لها ميقاتا ولا حدّا. قيل: الحفظ عن الضياع، استعير للإتمام والتكميل للأركان والهيئات؛ ولذا قال القاضي: وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا باعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها. {أُوْلئِك فِي جنّاتٍ مُّكْرمُون} أي: بثواب الله تعالى، لاتصافهم بمكارم الأخلاق. {فمالِ الّذِين كفرُوا قِبلك مُهْطِعِين} أي: مسرعين للحضور، ليظفروا بما يتخذونه هزؤا. وعن ابن زيد: المهطع الذي لا يطرف. {عنِ الْيمِينِ وعنِ الشِّمالِ عِزِين} أي: متفرقين حِلقا ومجالس، جماعة جماعة، معرضين عنك وعن كتاب الله. {أيطْمعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أن يُدْخل جنّة نعِيمٍ} أي: ولم يتّصف بصفات أهلها المنوّه بها قبل. {كُلا} أي: لا يكون ذلك، لأنه طمع في غير مطمع. {إِنّا خلقْناهُم مِّمّا يعْلمُون} أي: من النطف. يعني: ومن قدر على ذلك فلا يعجزه إهلاكهم، فليحذروا عاقبة البغي والفساد؛ ولذا قال: {فلا أُقْسِمُ بِربِّ الْمشارِقِ والْمغارِبِ} يعني مشرق كل يوم من السّنة ومغربه، أو مشرق كل كوكب ومغربه، أو الأقطار التي تشرق فيها الشمس وتغرب. {إِنّا لقادِرُون على أن نُّبدِّل خيْرا مِّنْهُمْ وما نحْنُ بِمسْبُوقِين} أي: بمغلوبين، إن أردنا ذلك. {فذرْهُمْ يخُوضُوا ويلْعبُوا حتّى يُلاقُوا يوْمهُمُ الّذِي يُوعدُون} أي: أخذهم فيه وهلاكهم. {يوْم يخْرُجُون مِن الْأجْداثِ سِراعا كأنّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُون} أي: يسرعون. والنصب: الصنم المنصوب للعبادة، أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك، أو ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره. فهم يسرعون إسراع عبدة الأصنام نحو صنمهم، أو إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها، أو إسراع الجند إلى راية الأمير. {خاشِعة أبْصارُهُمْ} أي: من الخزي والهوان. {ترْهقُهُمْ ذِلّةٌ} أي: تغشاهم ذلة من هول ما حاق بهم. {ذلِك الْيوْمُ الّذِي كانُوا يُوعدُون} أي: بأنهم ملاقوه. اهـ. .قال سيد قطب: الدرس الأول: 1- 18 قرب وقوع يوم القيامة والهول في مشاهده: {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى..} كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب؛ ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب؛ وينكرونها أشد الإنكار، ويتحدون الرسول صلى الله عليه وسلم في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود، أو أن يقول لهم: متى يكون. وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث. وفي رواية أخرى عنه: قال: ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم. وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلا سأل وقوع العذاب واستعجله. وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا، لأنه كائن في تقدير الله من جهة، ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى. وأن أحدا لا يمكنه دفعه ولا منعه. فالسؤال عنه واستعجاله- وهو واقع ليس له من دافع- يبدو تعاسة من السائل المستعجل؛ فردا كان أو مجموعة! وهذا العذاب للكافرين.. إطلاقا.. فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر. وهو واقع من الله {ذي المعارج}.. وهو تعبير عن الرفعة والتعالي، كما قال في السورة الأخرى: {رفيع الدرجات ذو العرش}.. وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب، ووقوعه، ومستحقيه، ومصدره، وعلو هذا المصدر ورفعته، مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع.. بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب. ولكن تقدير الله غير تقدير البشر، ومقاييسه غير مقاييسهم: من الاية 4 الى الاية 5 {تعْرُجُ الْملائِكةُ والرُّوحُ إِليْهِ فِي يوْمٍ كان مِقْدارُهُ خمْسِين ألْف سنةٍ (4) فاصْبِرْ صبْرا جمِيلا (5)} {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا}.. والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى. وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله. والروح: الأرجح أنه جبريل عليه السلام، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى. وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص. وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه. ولا ندري نحن- ولم نكلف أن ندري- طبيعة هذه المهام، ولا كيف يصعد الملائكة، ولا إلى أين يصعدون. فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص، وليس لنا إليها من سبيل، وليس لنا عليها من دليل. فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم. وأما {كان مقداره خمسين ألف سنة}.. فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي. وقد تعني حقيقة معينة، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن. فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة. وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات.. ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا. ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم! وإذا كان يوم واحد من أيام الله يساوي خمسين ألف سنة، فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيدا، وهو عند الله قريب. ومن ثم يدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب القريب. {فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا}.. والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة، وتكررت لكل رسول، ولكل مؤمن يتبع الرسول. وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق، ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية، موصولة بالهدف البعيد، متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد.. والصبر الجميل هو الصبر المطمئن، الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد. صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقدر الله، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به. وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة. فهي دعوة الله، وهي دعوة إلى الله. ليس له هو منها شيء. وليس له وراءها من غاية. فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله، وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله. فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة، ومع الشعور بها في أعماق الضمير. والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون، وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون، يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله. ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير؛ فيستعجلون. وإذا طال عليهم الأمد يستريبون. وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم، وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود.. عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير: من الاية 6 الى الاية 14 {إِنّهُمْ يروْنهُ بعِيدا (6) ونراهُ قرِيبا (7) يوْم تكُونُ السّماء كالْمُهْلِ (8) وتكُونُ الْجِبالُ كالْعِهْنِ (9) ولا يسْألُ حمِيمٌ حمِيما (10) يُبصّرُونهُمْ يودُّ الْمُجْرِمُ لوْ يفْتدِي مِنْ عذابِ يوْمِئِذٍ بِبنِيهِ (11) وصاحِبتِهِ وأخِيهِ (12) وفصِيلتِهِ الّتِي تُؤْويهِ (13) ومن فِي الْأرْضِ جمِيعا ثُمّ يُنجِيهِ (14)} {فاصبر صبرا جميلا}.. والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب. وتقريرا للحقيقة الأخرى: وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر؛ ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة: {إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا}.. ثم يرسم مشاهد اليوم الذي يقع فيه ذلك العذاب الواقع، الذي يرونه بعيدا ويراه الله قريبا. يرسم مشاهده في مجالي الكون وأغوار النفس. وهي مشاهد تشي بالهول المذهل المزلزل في الكون وفي النفس سواء: {يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن}.. والمهل ذوب المعادن الكدر كدردي الزيت. والعهن هو الصوف المنتفش. والقرآن يقرر في مواضع مختلفة أن أحداثا كونية كبرى ستقع في هذا اليوم، تغير أوضاع الأجرام الكونية وصفاتها ونسبها وروابطها. ومن هذه الأحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة. وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية. فمن المرجح عندهم أن الأجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة إلى الدرجة الغازية- وهي بعد درجة الانصهار والسيولة بمراحل- فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما قال: {وإذا النجوم انكدرت} وستبرد حتى تصير معادن سائلة! وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة الغازية! على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه. أما نحن فنقف أمام هذا النص نتملى ذلك المشهد المرهوب، الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر، وتكون فيه الجبال كالصوف الواهن المنتفش. ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس، فيعبر عنه القرآن أعمق تعبير: {ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه}. إن الناس في هم شاغل، لا يدع لأحد منهم أن يتلفت خارج نفسه، ولا يجد فسحة في شعوره لغيره: {ولا يسأل حميم حميما}. فلقد قطع الهول المروع جميع الوشائج، وحبس النفوس على همها لا تتعداه.. وإنهم ليعرضون بعضهم على بعض {يبصرونهم}كأنما عمدا وقصدا! ولكن لكل منهم همه، ولكل ضمير منهم شغله. فلا يهجس في خاطر صديق أن يسأل صديقه عن حاله، ولا أن يسأله عونه. فالكرب يلف الجميع، والهول يغشى الجميع.. فما بال {المجرم}؟ إن الهول ليأخذ بحسه، وإن الرعب ليذهب بنفسه، وإنه ليود لو يفتدي من عذاب يومئذ بأعز الناس عليه، ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة، ويناضل عنهم، ويعيش لهم.. ببنيه. وزوجه. وأخيه، وعشيرته القريبة التي تؤويه وتحميه. بل إن لهفته على النجاة لتفقده الشعور بغيره على الإطلاق، فيود لو يفتدي بمن في الأرض جميعا ثم ينجيه.. وهي صورة للهفة الطاغية والفزع المذهل والرغبة الجامحة في الإفلات! صورة مبطنة بالهول، مغمورة بالكرب، موشاة بالفزع، ترتسم من خلال التعبير القرآني الموحي. وبينما المجرم في هذه الحال، يتمنى ذلك المحال، يسمع ما ييئس ويقنط من كل بارقة من أمل، أو كل حديث خادع من النفس. كما يسمع الملأ جميعا حقيقة الموقف وما يجري فيه: {كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى..} إنه مشهد تطير له النفس شعاعا، بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله.. {كلا} في ردع عن تلك الأماني. من الاية 15 الى الاية 18 {كلّا إِنّها لظى (15) نزّاعة لِّلشّوى (16) تدْعُو منْ أدْبر وتولّى (17) وجمع فأوْعى (18)} المستحيلة في الافتداء بالبنين والزوج والأخ والعشيرة ومن في الأرض جميعا.. {كلا إنها لظى}نار تتلظى وتتحرق {نزاعة للشوى}تنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا.. وهي غول مفزعة. ذات نفس حية تشارك في الهول والعذاب عن إرادة وقصد: تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى.. تدعوه كما كان يدعى من قبل إلى الهدى فيدبر ويتولى. ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم لا يملك أن يدبر ويتولى! ولقد كان من قبل مشغولا عن الدعوة بجمع المال وحفظه في الأوعية! فأما اليوم فالدعوة من جهنم لا يملك أن يلهو عنها. ولا يملك أن يفتدي بما في الأرض كله منها! والتوكيد في هذه السورة والسورة السابقة قبلها وفي سورة القلم كذلك على منع الخير، وعدم الحض على طعام المسكين، وجمع المال في الأوعية إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية.. هذا التوكيد يدل على أن الدعوة كانت تواجه في مكة حالات خاصة يجتمع فيها البخل والحرص والجشع إلى الكفر والتكذيب والضلالة. مما اقتضى تكرار الإشارة إلى هذا الأمر، والتخويف من عاقبته، بوصفه من موجبات العذاب بعد الكفر والشرك بالله. وفي هذه السورة إشارات أخرى تفيد هذا المعنى، وتؤكد ملامح البيئة المكية التي كانت تواجهها الدعوة. فقد كانت بيئة مشغولة بجمع المال من التجارة ومن الربا. وكان كبراء قريش هم أصحاب هذه المتاجر، وأصحاب القوافل في رحلتي الشتاء والصيف. وكان هنالك تكالب على الثراء، وشح النفوس يجعل الفقراء محرومون، واليتامى مضيعين. ومن ثم تكرر الأمر في هذا الشأن وتكرر التحذير. وظل القرآن يعالج هذا الجشع وهذا الحرص؛ ويخوض هذه المعركة مع الجشع والحرص في أغوار النفس ودروبها قبل الفتح وبعده على السواء. مما هو ظاهر لمن يتتبع التحذير من الربا، ومن أكل أموال الناس بالباطل، ومن أكل أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا! ومن الجور على اليتيمات واحتجازهن للزواج الجائر رغبة في أموالهن! ومن نهر السائل، وقهر اليتيم، ومن حرمان المساكين... إلى آخر هذه الحملات المتتابعة العنيفة الدالة على الكثير من ملامح البيئة. فضلا على أنها توجيهات دائمة لعلاج النفس الإنسانية في كل بيئة. وحب المال، والحرص عليه، وشح النفس به، والرغبة في احتجانه، آفة تساور النفوس مساورة عنيفة، وتحتاج للانطلاق من إسارها والتخلص من أوهاقها، والتحرر من ربقتها، إلى معارك متلاحقة، وإلى علاج طويل! الدرس الثاني: 19- 35 من طبيعة النفس الإنسانية التي يهذبها الإسلام وصفات الصالحين: والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم، وفي صورة ذلك العذاب؛ فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير، في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان. ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون}. وصورة الإنسان- عند خواء قلبه من الإيمان- كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق؛ والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني، الذي يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملاقاة الشر، ومن الشح عند امتلاك الخير. من الاية 19 الى الاية 25 {إِنّ الْإِنسان خُلِق هلُوعا (19) إِذا مسّهُ الشّرُّ جزُوعا (20) وإِذا مسّهُ الْخيْرُ منُوعا (21) إِلّا الْمُصلِّين (22) الّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ دائِمُون (23) والّذِين فِي أمْوالِهِمْ حقٌّ مّعْلُومٌ (24) لِّلسّائِلِ والْمحْرُومِ (25)} {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}.. لكأنما كل كلمة لمسة من ريشة مبدعة تضع خطا في ملامح هذا الإنسان. حتى إذا اكتملت الآيات الثلاث القصار المعدودة الكلمات نطقت الصورة ونبضت بالحياة. وانتفض من خلالها الإنسان بسماته وملامحه الثابتة. هلوعا.. جزوعا عند مس الشر، يتألم للذعته، ويجزع لوقعه، ويحسب أنه دائم لا كاشف له. ويظن اللحظة الحاضرة سرمدا مضروبا عليه؛ ويحبس نفسه بأوهامه في قمقم من هذه اللحظة وما فيها من الشر الواقع به. فلا يتصور أن هناك فرجا؛ ولا يتوقع من الله تغييرا. ومن ثم يأكله الجزع، ويمزقه الهلع. ذلك أنه لا يأوي إلى ركن ركين يشد من عزمه، ويعلق به رجاءه وأمله.. منوعا للخير إذا قدر عليه. يحسب أنه من كده وكسبه فيضن به على غيره، ويحتجنه لشخصه، ويصبح أسير ما ملك منه، مستعبدا للحرص عليه! ذلك أنه لا يدرك حقيقة الرزق ودوره هو فيه. ولا يتطلع إلى خير منه عند ربه وهو منقطع عنه خاوي القلب من الشعور به.. فهو هلوع في الحالتين.. هلوع من الشر. هلوع على الخير.. وهي صورة بائسة للإنسان، حين يخلو قلبه من الإيمان. ومن ثم يبدو الإيمان بالله مسألة ضخمة في حياة الإنسان. لا كلمة تقال باللسان، ولا شعائر تعبدية تقام. إنه حالة نفس ومنهج حياة، وتصور كامل للقيم والأحداث والأحوال. وحين يصبح القلب خاويا من هذا المقوم فإنه يتأرجح ويهتز وتتناوبه الرياح كالريشة! ويبيت في قلق وخوف دائم، سواء أصابه الشر فجزع، أم أصابه الخير فمنع. فأما حين يعمره الإيمان فهو منه في طمأنينة وعافية، لأنه متصل بمصدر الأحداث ومدبر الأحوال؛ مطمئن إلى قدره شاعر برحمته، مقدر لابتلائه، متطلع دائما إلى فرجه من الضيق، ويسره من العسر. متجه إليه بالخير، عالم أنه ينفق مما رزقه، وأنه مجزي على ما أنفق في سبيله، معوض عنه في الدنيا والآخرة.. فالإيمان كسب في الدنيا يتحقق قبل جزاء الآخرة، يتحقق بالراحة والطمأنينة والثبات والاستقرار طوال رحلة الحياة الدنيا. وصفة المؤمنين المستثنين من الهلع، تلك السمة العامة للإنسان، يفصلها السياق هنا ويحددها: {إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون}.. والصلاة فوق أنها ركن الإسلام وعلامة الإيمان، هي وسيلة الاتصال بالله والاستمداد من ذلك الرصيد. ومظهر العبودية الخالصة التي يتجرد فيها مقام الربوبية ومقام العبودية في صورة معينة. وصفة الدوام التي يخصصها بها هنا: {الذين هم على صلاتهم دائمون}.. تعطي صورة الاستقرار والاستطراد، فهي صلاة لا يقطعها الترك والإهمال والكسل وهي صلة بالله مستمرة غير منقطعة.. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل شيئا من العبادة أثبته- أي داوم عليه- وكان يقول: «وإن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما دام وإن قل».. لملاحظة صفة الاطمئنان والاستقرار والثبات على الاتصال بالله، كما ينبغي من الاحترام لهذا الاتصال. فليس هو لعبة توصل أو تقطع، حسب المزاج! {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}.. وهي الزكاة على وجه التخصيص والصدقات المعلومة القدر.. وهي حق في أموال المؤمنين.. أو لعل المعنى أشمل من هذا وأكبر. وهو أنهم يجعلون في أموالهم نصيبا معلوما يشعرون أنه حق للسائل والمحروم. وفي هذا تخلص من الشح واستعلاء على الحرص! كما أن فيه شعورا بواجب الواجد تجاه المحروم، في هذه الأمة المتضامنة المتكافلة.. والسائل الذي يسأل؛ والمحروم الذي لا يسأل ولا يعبر عن حاجته فيحرم. أو لعله الذي نزلت به النوازل فحرم وعف عن السؤال. والشعور بأن للمحتاجين والمحرومين حقا في الأموال هو شعور بفضل الله من جهة، وبآصرة الإنسانية من جهة، فوق ما فيه من تحرر شعوري من ربقة الحرص والشح. وهو في الوقت ذاته ضمانة اجتماعية لتكافل الأمة كلها وتعاونها. فهي فريضة ذات دلالات شتى، في عالم الضمير وعالم الواقع سواء.. وذكرها هنا فوق أنه يرسم خطا في ملامح النفس المؤمنة فهو حلقة من حلقات العلاج للشح والحرص في السورة. من الاية 26 الى الاية 38 {والّذِين يُصدِّقُون بِيوْمِ الدِّينِ (26) والّذِين هُم مِّنْ عذابِ ربِّهِم مُّشْفِقُون (27) إِنّ عذاب ربِّهِمْ غيْرُ مأْمُونٍ (28) والّذِين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون (29) إِلّا على أزْواجِهِمْ أوْ ما ملكتْ أيْمانُهُمْ فإِنّهُمْ غيْرُ ملُومِين (30) فمنِ ابْتغى وراء ذلِك فأُوْلئِك هُمُ الْعادُون (31) والّذِين هُمْ لِأماناتِهِمْ وعهْدِهِمْ راعُون (32) والّذِين هُم بِشهاداتِهِمْ قائِمُون (33) والّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ يُحافِظُون (34) أُوْلئِك فِي جنّاتٍ مُّكْرمُون (35) فمالِ الّذِين كفرُوا قِبلك مُهْطِعِين (36) عنِ الْيمِينِ وعنِ الشِّمالِ عِزِين (37) أيطْمعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أن يُدْخل جنّة نعِيمٍ (38)} {والذين يصدقون بيوم الدين}.. وهذه الصفة ذات علاقة مباشرة بموضوع السورة الرئيسي. وهي في الوقت ذاته ترسم خطا أساسيا في ملامح النفس المؤمنة. فالتصديق بيوم الدين شطر الإيمان. وهو ذو أثر حاسم في منهج الحياة شعورا وسلوكا. والميزان في يد المصدق بيوم الدين غير الميزان في يد المكذب بهذا اليوم أو المستريب فيه. ميزان الحياة والقيم والأعمال والأحداث.. المصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا ويتقبل الأحداث خيرها وشرها وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها هناك، فيضيف إليها النتائج المرتقبة حين يزنها ويقومها.. والمكذب بيوم الدين يحسب كل شيء بحسب ما يقع له منه في هذه الحياة القصيرة المحدودة، ويتحرك وحدوده هي حدود هذه الأرض وحدود هذا العمر. ومن ثم يتغير حسابه وتختلف نتائج موازينه، وينتهي إلى نتائج خاطئة فوق ما ينحصر في مساحة من المكان ومساحة من الزمان محدودة.. وهو بائس مسكين معذب قلق لأن ما يقع في هذا الشطر من الحياة الذي يحصر فيه تأملاته وحساباته وتقديراته، قد لا يكون مطمئنا ولا مريحا ولا عادلا ولا معقولا، ما لم يضف إليه حساب الشطر الآخر وهو أكبر وأطول. ومن ثم يشقى به من لا يحسب حساب الآخرة أو يشقى غيره من حوله. ولا تستقيم له حياة رفيعة لا يجد جزاءها في هذه الأرض واضحا.. ومن ثم كان التصديق باليوم الآخر شطر الإيمان الذي يقوم عليه منهج الحياة في الإسلام. {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون}.. وهذه درجة أخرى وراء مجرد التصديق بيوم الدين. درجة الحساسية المرهفة، والرقابة اليقظة، والشعور بالتقصير في جناب الله على كثرة العبادة، والخوف من تلفت القلب واستحقاقه للعذاب في أية لحظة، والتطلع إلى الله للحماية والوقاية. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو عند الله. وهو يعرف أن الله قد اصطفاه ورعاه.. كان دائم الحذر دائم الخوف لعذاب الله. وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنة إلا بفضل من الله ورحمة. وقال لأصحابه: «لن يدخل الجنة أحدا عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» وفي قوله هنا: {إن عذاب ربهم غير مأمون}.. إيحاء بالحساسية الدائمة التي لا تغفل لحظة، فقد تقع موجبات العذاب في لحظة الغفلة فيحق العذاب. والله لا يطلب من الناس إلا هذه اليقظة وهذه الحساسية، فإذا غلبهم ضعفهم معها، فرحمته واسعة، ومغفرته حاضرة. وباب التوبة مفتوح ليست عليه مغاليق! وهذاقوام الأمر في الإسلام بين الغفلة والقلق. والإسلام غير هذا وتلك. والقلب الموصول بالله يحذر ويرجو، ويخاف ويطمع، وهو مطمئن لرحمة الله على كل حال. {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.. وهذه تعني طهارة النفس والجماعة، فالإسلام يريد مجتمعا طاهرا نظيفا، وفي الوقت ذاته ناصعا صريحا. مجتمعا تؤدى فيه كل الوظائف الحيوية، وتلبي فيه كل دوافع الفطرة. ولكن بغير فوضى ترفع الحياء الجميل، وبغير التواء يقتل الصراحة النظيفة. مجتمعا يقوم على أساس الأسرة الشرعية المتينة القوائم. وعلى البيت العلني الواضح المعالم. مجتمعا يعرف فيه كل طفل أباه، ولا يخجل من مولده. لا لأن الحياء منزوع من الوجوه والنفوس. ولكن لأن العلاقات الجنسية قائمة على أساس نظيف صريح، طويل الأمد واضح الأهداف، يرمي إلى النهوض بواجب إنساني واجتماعي، لا لمجرد إرضاء النزوة الحيوانية والشهوة الجنسية! ومن ثم يذكر القرآن هنا من صفات المؤمنين {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.. فيقرر نظافة الاتصال بالأزواج وبما ملكت الأيمان- من الإماء حين يوجدن بسبب مشروع- والسبب المشروع الوحيد الذي يعترف به الإسلام هو السبي في قتال في سبيل الله. وهي الحرب الوحيدة التي يقرها الإسلام- والأصل في حكم هذا السبي هو ما ذكرته آية سورة محمد: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} ولكن قد يتخلف بعض السبي بلا من ولا فداء لملابسات واقعية؛ فهذا يظل رقيقا إذا كان المعسكر الآخر يسترق أسرى المسلمين في أية صورة من صور الرق- ولو سماه بغير اسمه!- ويجوز الإسلام وطء الإماء عندئذ من صاحبهن وحده، ويجعل عتقهن موكولا إلى الوسائل الكثيرة التي شرعها الإسلام لتجفيف هذا المورد. ويقف الإسلام بمبادئه صريحا نظيفا لا يدع هؤلاء الأسيرات لفوضى الاختلاط الجنسي القذر كما يقع لأسيرات الحروب قديما وحديثا! ولا يتدسس ويلتوي فيسميهن حرات وهن إماء في الحقيقة! {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.. وبذلك يغلق الباب في وجه كل قذارة جنسية، في أية صورة غير هاتين الصورتين الواضحتين الصريحتين.. فلا يرى في الوظيفة الطبيعية قذارة في ذاتها؛ ولكن القذارة في الالتواء بها. والإسلام نظيف صريح قويم.. {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}. وهذه من القوائم الأخلاقية التي يقيم الإسلام عليها نظام المجتمع. ورعاية الأمانات والعهود في الإسلام تبدأ من رعاية الأمانة الكبرى التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. وهي أمانة العقيدة والاستقامة عليها اختيارا لا اضطرارا.. ومن رعاية العهد الأول المقطوع على فطرة الناس وهم بعد في الأصلاب أن الله ربهم الواحد، وهم بخلقتهم على هذا العهد شهود.. ومن رعاية تلك الأمانة وهذا العهد تنبثق رعاية سائر الأمانات والعهود في معاملات الأرض وقد شدد الإسلام في الأمانة والعهد وكرر وأكد، ليقيم المجتمع على أسس متينة من الخلق والثقة والطمأنينة. وجعل رعاية الأمانة والعهد سمة النفسالمؤمنة، كما جعل خيانة الأمانة وإخلاف العهد سمة النفس المنافقة والكافرة. ورد هذا في مواضع شتى من القرآن والسنة لا تدع مجالا للشك في أهمية هذا الأمر البالغة في عرف الإسلام. {والذين هم بشهاداتهم قائمون}.. وقد ناط الله بأداء الشهادة حقوقا كثيرة، بل ناط بها حدود الله، التي تقام بقيام الشهادة. فلم يكن بد أن يشدد الله في القيام بالشهادة، وعدم التخلف عنها ابتداء، وعدم كتمانها عند التقاضي، ومن القيام بها أداؤها بالحق دون ميل ولا تحريف. وقد جعلها الله شهادة له هو ليربطها بطاعته، فقال: {وأقيموا الشهادة لله}.. وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من الأمانات، أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهميتها.. وكما بدأ سمات النفوس المؤمنة بالصلاة، ختمها كذلك بالصلاة: {والذين هم على صلاتهم يحافظون}.. وهي صفة غير صفة الدوام التي ذكرت في صدر هذه الصفات. تتحقق بالمحافظة على الصلاة في مواعيدها، وفي فرائضها، وفي سننها، وفي هيئتها، وفي الروح التي تؤدى بها. فلا يضيعونها إهمالا وكسلا. ولا يضيعونها بعدم إقامتها على وجهها.. وذكر الصلاة في المطلع والختام يوحي بالاحتفال والاهتمام. وبهذا تختم سمات المؤمنين.. وعندئذ يقرر مصير هذا الفريق من الناس بعد ما قرر من قبل مصير الفريق الآخر: {أولئك في جنات مكرمون}.. ويجمع هذا النص القصير بين لون من النعيم الحسي ولون من النعيم الروحي. فهم في جنات. وهم يلقون الكرامة في هذه الجنات. فتجتمع لهم اللذة بالنعيم مع التكريم، جزاء على هذا الخلق الكريم، الذي يتميز به المؤمنون.. الدرس الثالث: 36- 41 من أفعال الكفار ضد الرسول وتيئيسهم من الجنة والقدرة على البعث: ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن. ثم يتفرقون حواليه جماعات. ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون: {فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين..} المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود. وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى.. وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة. وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها. وتعجب منهم. وتساؤل عن هذا الحال منهم! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون! ما لهم؟ {أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم}.. وهم على هذه الحال التي لا تؤدي إلى جنة نعيم، إنما تؤدي إلى لظى مأوى المجرمين! ألعلهم يحسبون أنفسهم شيئا عظيما عند الله؛ فهم يكفرون ويؤذون الرسول، ويسمعون القرآن ويتناجون بالكيد. ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله لأنهم في ميزان الله شيء عظيم؟!. من الاية 39 الى آخر السورة. {كلّا إِنّا خلقْناهُم مِّمّا يعْلمُون (39) فلا أُقْسِمُ بِربِّ الْمشارِقِ والْمغارِبِ إِنّا لقادِرُون (40) على أن نُّبدِّل خيْرا مِّنْهُمْ وما نحْنُ بِمسْبُوقِين (41) فذرْهُمْ يخُوضُوا ويلْعبُوا حتّى يُلاقُوا يوْمهُمُ الّذِي يُوعدُون (42) يوْم يخْرُجُون مِن الْأجْداثِ سِراعا كأنّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُون (43) خاشِعة أبْصارُهُمْ ترْهقُهُمْ ذِلّةٌ ذلِك الْيوْمُ الّذِي كانُوا يُوعدُون (44)} {كلا} في ردع وفي تحقير.. {إنا خلقناهم مما يعلمون}! وهم يعلمون مم خلقوا! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الخفية العميقة في الوقت ذاته؛ فيمسح بها كبرياءهم مسحا، وينكس بها خيلاءهم تنكيسا، دون لفظة واحدة نابية، أو تعبير واحد جارح. بينما هذه الإِشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل تصوير! فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟ وهم مخلوقون مما يعلمون! وهم أهون على الله من أن تكون لهم دالة عليه، وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم. واستطرادا في تهوين أمرهم، وتصغير شأنهم، وتنكيس كبريائهم، يقرر أن الله قادر على أن يخلق خيرا منهم، وأنهم لا يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين}. والأمر ليس في حاجة إلى قسم. ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب، يوحي بعظمة الخالق. والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح. كما أنها قد تعني المشارق والمغارب المتوالية على بقاع الأرض. وهي تتوالى في كل لحظة. ففي كل لحظة أثناء دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب... وأيا كان مدلول المشارق والمغارب، فهو يوحي إلى القلب بضخامة هذا الوجود، وبعظمة الخالق لهذا الوجود. فهل يحتاج أمر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلى قسم برب المشارق والمغارب، على أنه- سبحانه- قادر على أن يخلق خيرا منهم، وأنهم لا يسبقونه ولا يفوتونه ولا يهربون من مصيرهم المحتوم؟!. الدرس الرابع: 42- 44 تهديد الكفار وصورة لهول البعث: وعندما يبلغ السياق هذا المقطع، بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود؛ وكرامة النعيم للمؤمنين، وهوان شأن الكافرين. يتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب، ويرسم مشهدهم فيه، وهو مشهد مكروب ذليل: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}.. وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم، ومن التهديد لهم، ما يثير الخوف والترقب. وفي مشهدهم وهيئتهم وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف. كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم.. فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه.. وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا. لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها. فها هم أولاء يسارعون اليوم، ولكن شتان بين يوم ويوم! ثم تتم سماتهم بقوله: {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة} فنلمح من خلال الكلمات سيماهم كاملة، وترتسم لنا من قسماتهم صورة واضحة. صورة ذليلة عانية.. لقد كانوا يخوضون ويلعبون فهم اليوم أذلاء مرهقون.. {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}. فكانوا يستريبون فيه ويكذبون ويستعجلون! بهذا يلتئم المطلع والختام، وتتم هذه الحلقة من حلقات العلاج الطويل لقضية البعث والجزاء، وتنتهي هذه الجولة من جولات المعركة الطويلة بين التصور الجاهلي والتصور الإسلامي للحياة. اهـ.
|